مذكرة الجنائية الدولية- نتنياهو وإسرائيل أمام محكمة التاريخ.

المؤلف: إيهاب جبارين10.02.2025
مذكرة الجنائية الدولية- نتنياهو وإسرائيل أمام محكمة التاريخ.

لم يكن شمشون بطلاً أسطورياً بقدر ما كان شخصية متغطرسة، تتباهى بقوة هائلة، يزعم أنها هبة إلهية لا تنضب. وعندما شعرت نرجسيته بالتهديد، وأحس أن الحبل بدأ يلتف حول عنقه، لجأ إلى تدمير كل شيء، معلناً: "عليّ وعلى أعدائي".

إن إصدار مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزير الدفاع يوآف غالانت، يمثل منعطفاً تاريخياً على الصعيدين القانوني والسياسي. فقد وُجهت إليهما اتهامات خطيرة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، بما في ذلك استهداف المدنيين الأبرياء والتسبب بمعاناة إنسانية بالغة.

تواجه هذه القضية القانونية معوقات جمة على المستويين القانوني والسياسي، فإسرائيل، التي ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، تعترض بشدة على سلطة المحكمة في التحقيق مع مسؤولين إسرائيليين، وتؤكد أن القضاء الإسرائيلي هو الجهة المختصة حصراً بمحاكمة أي متهم إسرائيلي.

في المقابل، تؤكد المحكمة الجنائية الدولية بحزم على حقها الأصيل في النظر في الجرائم التي ارتُكبت على الأراضي الفلسطينية المحتلة، باعتبار أن فلسطين دولة عضوة في المحكمة منذ عام 2015.

وعلى الصعيد الدولي، يشهد هذا القرار انقساماً حاداً، فالولايات المتحدة الأمريكية، أبدت رفضاً قاطعاً لهذه الخطوة، معتبرة أنها تساوي بين إسرائيل وحركة حماس، بينما تحث دول أخرى، كالمملكة المتحدة، على ضرورة التقيد بأحكام القانون الدولي واحترام استقلالية القضاء الدولي.

وحتى اللحظة، لا يزال القرار النهائي بشأن تنفيذ مذكرة الاعتقال معلقاً، في ظل مساع حثيثة تبذلها إسرائيل وحلفاؤها لتعطيل الإجراءات القانونية.

يبدو نتنياهو مصدوماً، محبطاً، ومرتبكاً، يظهر مرتدياً ربطة عنق زرقاء، ويتحدث إلى مواطني إسرائيل باللغة العبرية، محاولاً لعب دور الضحية، ومستغلاً هذه الأزمة للتغطية على الإخفاقات المتتالية التي تلاحقه في الداخل الإسرائيلي، بدءاً من قضية تجنيد الحريديم، وملفاته الجنائية، وصولاً إلى تمرير الميزانية في ظل أزمة اقتصادية خانقة، والاحتجاجات المطالبة بإعادة الأسرى.

ويأتي كل هذا في ظل وجود جبهتين مشتعلتين بلا خطة واضحة للخروج وأهداف سياسية معلنة، فيلجأ نتنياهو إلى توظيف هذه الأزمة ليتقمص – كما اعتاد هو وإسرائيل – دور الضحية والمستهدف شخصياً، متلاعباً بالحقائق، ومتغافلاً عن حقيقة أن الاستهداف ليس مجرد دفاع إسرائيل عن نفسها، متناسياً أكثر من خمسين ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء والمدنيين العزل، في حين أن حكومته أقرت منذ اليوم الأول بأن التجويع والتعطيش هما وسيلة لتحقيق أهداف الحرب، لتأتي هذه المذكرة لتذكر الدبلوماسية العالمية بوجود مجازر تُرتكب، وبأن هناك إبادة وجرائم حرب تُرتكب في غزة.

وقبل نتنياهو، ثارت إسرائيل بأكملها، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وعلى مدار عام كامل، لم يجرؤ أحد على تسمية الأمور بمسمياتها سوى "عوفر كسيف"، عضو الكنيست اليساري، الذي وصف إسرائيل بأنها "مرتكبة جرائم حرب"، ولهذا السبب بالذات عاقبته لجنة التأديب مؤخراً.

إن أكثر ما يزعج إسرائيل هو أنها باتت تحاكم في المكان الذي تعتبره مقدساً، ومن قبل المحكمة التي أُنشئت لتحقيق العدالة لأسلافهم الذين عانوا من ويلات النازية، فمحاسبة الذات هي الأمر الأكثر إيلاماً، واليوم تحاكم المحكمة ذاتها إسرائيل، الدولة اليهودية، على الجرائم ذاتها التي ارتُكبت في حق أجدادهم، فليس ثمة مذلة أو إهانة أكبر من ذلك.

ومن ناحية أخرى، وفي ظل العزلة الدبلوماسية المتزايدة التي تجتاح إسرائيل، والتي تعيدها إلى حقبة الثمانينيات، وتحديداً نظراً لحاجتها الماسة إلى العالم والأسواق العالمية والعولمة، كي تتمكن من الصمود في وجه الأضرار والاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن الحرب، تجد إسرائيل نفسها معزولة دبلوماسياً، بل وأكثر من ذلك، فقد باتت رقبتها معلقة أكثر من أي وقت مضى بالولايات المتحدة، ولكن ليست أي ولايات متحدة، بل ولايات ترامب المتحدة تحديداً.

فعلى الرغم من العلاقة الودية بين هذه الإدارة وحكومة تل أبيب، فإن تل أبيب تدرك جيداً أن "لا" ترامب تختلف اختلافاً جذرياً عن "لا" بايدن، وبالتالي، وفي ظل الظلام الدبلوماسي الذي يخيم على سماء تل أبيب، تقلصت مساحة المناورة أمام واشنطن، خاصة وأن أهم أوراق الابتزاز التي كان يملكها نتنياهو في مواجهة المكتب البيضاوي الأخير، كانت تتمثل في قدرة إسرائيل على بناء تحالفات لمناورة واشنطن.

هذا المنحنى يضع إسرائيل أمام خيارين لا ثالث لهما:

الخيار الأول: لقد أظهر نتنياهو نفسه كعقبة أمام الصورة المثالية التي تسعى إسرائيل إلى ترسيخها، وهي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فهذا القرار يطعن في ديمقراطية إسرائيل قبل أي شيء آخر، كما يشكك في استقلالية القضاء الإسرائيلي وقدرته على إجراء محاسبة ذاتية نزيهة.

فعلى مدى سنوات، تغاضى الغرب عن أشد ممارسات إسرائيل الاحتلالية، فقط لكونها تمارس هذا الاحتلال تحت غطاء الديمقراطية والقيم الليبرالية، ولكن الآن، وبعد أن وضعت المحكمة اسم نتنياهو جنباً إلى جنب مع البشير، تجد إسرائيل نفسها أمام اختبار حقيقي، وعليها أن تقرر ما الذي تفضله: سمعة إسرائيل أم سمعة رئيس حكومتها الذي جلب لها العار؟

هذه النقطة تحديداً هي اختبار للدولة العميقة في إسرائيل، ومدى سيطرة نتنياهو عليها، وهنا يمكن القول إن هذه التطورات أعادت إسرائيل إلى المربع الأول، فإذا أرادت الانتصار في الحرب، عليها الانتصار على نتنياهو، الأمر الذي تجاوزه نتنياهو حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم.

والآن مرة أخرى، توضع الدولة العميقة في إسرائيل في هذا الاختبار المصيري: إما أن تنتصر هي، وإما أن ينتصر هو، ومن بعده فليحدث الطوفان.

أما الخيار الثاني، فهو يعني التأكيد على أن إسرائيل باتت دولة الرجل الواحد، وهنا يجب على الساحر الدبلوماسي أن يبذل جهوده السابقة، والتي نجح بها مرات عديدة، لإخراج إسرائيل من عزلتها الدبلوماسية، وذلك عن طريق ضرب المحكمة الدولية بجهود استخباراتية قبل الجهود الدبلوماسية، وما ملف كريم خان إلا مجرد مقدمة لما تعده إسرائيل لكل من يقف في طريقها، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات أو حتى دولًا، تمامًا كما تفعل الدول المارقة الخارجة عن القانون.

وهنا لن يكون هذا مجرد اختبار لنصر شمشون الإسرائيلي، بل هو اختبار لكل القيم الدولية والديمقراطية، بل وسيكون مقياسًا لأداء غزة في كشف مواثيق حقوق الإنسان التي ضاقت على الفلسطينيين.

ويجب على العالم أن يحدد ما هو تعريف حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، خاصة وأن كل ممارساتها وكل ما ارتكبته يصنف اليوم على أنه "جرائم حرب" وفقاً لاعتراف محكمتها الدولية.

جملة التصريحات الإسرائيلية لم تترك الكثير من الخيارات المتاحة، ولم يبق سوى أن تعلن إسرائيل الحرب على لاهاي، وضرورة الاستيطان فيها بعد محوها كإجراء عقابي لكل من يجرؤ على الوقوف في وجه هذا الشمشون.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة